خديجة بنت خويلد
عن عائشة قالت كان رسول الله إذا ذبح الشاة يقول أرسلوا إلى أصدقاء خديجة.. قالت فذكرت له يوما فقال إني لأحب حبيبها.
خديجة في الجاهلية
هي خديجة بنت خويلد بن عبد العزي بن أسد القرشية الاسدية الصديقة الكبرى , والأم الأولى للمؤمنين , والزوج الأولى للرسول الكريم, وأم أولاده جميعا إلا إبراهيم.
كانت في الجاهلية تحت أبي هالة ابن زرارة التميمي وقد مات عنها , بعد أن ولدت له هندا الذي امن بالرسول و صحبة وشهد معه بدرا, كما ولدت له هالة بن أبي هالة وكان له صحبة أيضا.
وبعد موت أبي هالة تزوجها عتيق بن عابد المخزومي فولدت له بنتا اسمها هند, لها إسلام و صحبة, ثم خلف عليها بعد عتيق سيد الأزواج محمد ابن عبد الله.
وكانت خديجة تدعى في الجاهلية : الطاهرة لشدة عفافها و صيانتها, و يصفونها بسيدة نساء قريش.
خديجة التاجرة :
كانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف و مال تستأجر الرجال في مالها, و نضاربهم إياه بشيء تجعله لهم, وكانت قريش قوم تجارا.
وفي جلسة بين أبي طالب ومحمد ابن أخيه قال له : يا ابن أخي انا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا, وألحت علينا سنون منكرة, وليس لنا مادة ولا تجارة, وهذه بعير قومك, قد حضر خروجها إلى الشام, وخديجة تبعث رجال من قومك يتجرون مالها ويصيبون منافع, فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك.
فقال محمد عليه السلام: لعلها ترسل إلي في ذلك.
فقل أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك.
وبلغ هذا الحوار بين محمد وعمه إلى خديجة, فما كان منها إلا أن أرسلت إليه لما عرفت عنه من الصدق والأمانة, وحسن السمعة. وعرضت عليه ان يخرج في مال لها الى الشام تاجرا, و نعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار, مع غلام لها يقال له ميسره فقبل رسول الله منها, وخرج في مالها ذلك, ومعه غلامها ميسرة إلى الشام.
شريكة التجارة تصبح شريكة الحياة:
عاد محمد من الشام بربح وفير لم تحصل عليه خديجة من قبل, وعاد إليها غلامها بحديث أوفر من الربح على هذا الرفيق الكريم وما رأى ولمس فيه من سمو الأخلاق و عجيب الآيات.
وهفا قلب خديجة إلى محمد أن يشركها في الحياة كما شركها في التجارة فاته رجل ناذر المثال حقا.
شاب, وليس فيه عبث الشباب, تاجر وليس فيه جشع التجار, فقير وليس فيه ضعة الفقراء, قرشي, وليس فيه زهو قريش.
إن الرجال اعتادوا أن يخطبوا النساء , فكيف نخطب المرأة الرجل؟
هذه هي المشكلة, ولكن خديجة تحلها عن طريق صديقتها نفيسة أخت يعلى بن منبه.
أرسلتها خديجة دسيسا إلى محمد و فقالت له: ما يمنعك من ان تتزوج؟
قال : ما في يدي شيء.
قالت: فان كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟
قال: ومن؟ قالت : خديجة, قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: على ذلك.
فسارع الرسول إلى إعلان قبوله, وذهبت نفيسة إلى خديجة فبشرتها بنتيجة هذا الحديث, ولم تلبث خديجة أن حددت الموعد الذي يلتقي فيه محمد وأعمامه بأهل خديجة, فذهب الرسول ومعه عماه أبو طالب و حمزة وخطبوا خديجة من عمها عمرو بن أسد, وكان صداقها عشرين بكرة, وكانت سنها أربعين سنة وكان هو في الخامسة والعشرين على أشهر الأقوال.
زوج مثالي :
لقد كان الميسور لمحمد بن عبد الله أن يتزوج فتاة من أبكار قريش, بدل هذه الثيب التي تزوجت مرتين, وبلغت الأربعين أو جاوزتها, وأوشك وجهها أن يتجعد, و شعرها أن يشيب.
لو كان من عشاق الجسد وطلاب الشهوة لكان له في الأبكار الصغار متسع, وهو الفحل لا يقذع انفه, والقرشي الهاشمي لا ترد خطبته, وله من قوة شخصيته وحسن سمعته ووسامة طلعته وشهرة أسرته, ما يزيل العقبات ويمهد السبل.
ولكنه كان ينشد العقل الرشيد والقلب الكبير , فوجدهما في خديجة.
وكان أمام خديجة وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا وأعظمهن شرفا, وأكثرهن مالا , من عظماء قريش وأثريائها من يتمنى زواجها, ومن أرسل إليها يخطبها, ولكنها رغبت عنهم جميعا شعرت بأنهم يخطبون مالها لا شخصها, يخطبون خديجة الغنية لا خديجة الإنسانة.
ردت خديجة يد أشراف قريش ولم تجد حرجا أن تعرض الزواج على الشاب الفقير الذي يعمل في تجارتها وأنها وجدت في محمد ضالتها فاختارته بقلبها الملهم, وإنما اختارت لنفسها في الحقيقة الخلود ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه.
ومن أولى بمحمد من خديجة ؟ ومن اولى بخديجة من محمد ؟ أن المرأة التي يلقبونها بالطاهرة أولى بالرجل الذي يلقبونه بالأمين (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات)سورة النور الآية 26
وكان زواجا سعيدا موفقا لم تغم سماؤه يوما من الأيام ولم يعكر صفوه افتتان المرأة الغنية بمالها, ولا اعتداد الشاب الفتى بشبابه, بل كان شبابه كله لها, وكان مالها كله له, يبذل منه ما يرى في صلة الرحم, ووجوه البر, وصنائع المعروف .
أصابت الناس سنة جدب فجاءت حليمة السعدية مرضعة الرسول إليه فأكرم وفادتها, وعادت من عنده ومعها من مال خديجة بعير يحمل الماء, وأربعون رأسا من الغنم.
وكانت خديجة أول امرأة تزوجها رسول الله ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت رضي الله عنها.
وقد ولدت له أولاده كلهم, إلا إبراهيم: ولدت له من الذكور: القاسم وهو اكبر بنيه, وبه كان يكنى بعد البعثة, وعبد الله ويلقب بالطيب والطاهر, ومن الإناث: رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ثم فاطمة اصغر بناته.
فأما القاسم وعبد الله فماتا في الجاهلية, وأما البنات فقد أدركن الإسلام وهاجرن معه عليه السلام, وقد كان يتوقع من خديجة أن يهلع فؤادها لموت أبنائها من رجل تحبه في عصر كانت تواد فيه البنات ولكنها كانت دائما مثال العزم الراسخ والإيمان الصبور.
خديجة المؤمنة:
ثلاث نسوة بارزات في حياة الرسل الثلاثة أصحاب الديانات الخيرة الكبرى: آسية امرأة فرعون في حياة موسى, ومريم ابنة عمران في حياة عيسى, وخديجة في حياة محمد عليه السلام, كل واحدة منهن كفلت نبيا مرسلا قبل بعثته, وأحسنت الصحبة في كفالته, وصدقت به بعد رسالته, لهذا جمع الرسول بين هؤلاء الكوامل في عقد واحد فقال: ( كمل من الرجال كثير, ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران, وآسية امرأة فرعون, وخديجة بنت خويلد) .
وإذا كان بعض الحكماء يقول: ( إن وراء الرجل العظيم امرأة تشد أزره أما كانت أو زوجا) فقد كانت خديجة المرأة التي وراء محمد عليه الصلاة والسلام.
أعانته في الجاهلية على حياته الطاهرة النقية البعيدة عن الأوثان والخمر والميسر والشهوات وكانت له ظهيرا في حياة التجرد والتأمل والبعد عن صخب الناس وضوضاء الحياة.
كانت تهيئ له الزاد كل عام ليقضي شهر رمضان في غار حراء, ولو كان الأمر لعاطفتها المجردة ما رضيت كامرأة أن يغيب عنها ليلة واحده فكيف بالليالي ذوات العدد؟
ولكنها تحس أن زوجها رجل غير الرجال, وان له شانا أي شان, فلتكن عونه على مثله الرفيعة وقيمه العليا وقد كانت تصحبه أو تزوره أحيانا في هذا الغار وتبقى معه أياما وليالي تؤنسه وترعاه, ومن طواعيتها له قبل البعثة ومسارعتها في هواه أنها رأت ميله إلى زيد ابن حارثة بعد أن صار فيه ملكها فوهبته له, فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق للإسلام.
هذه خديجة في الجاهلية وأما بعد الرسالة, فاستمع إلى عائشة تروي موقفها من الرسول حينما تلقى أول شحنة من وحي السماء في غار حراء وغطه جبريل حتى بلغ منه الجهد, فعاد إلى خديجة ترجف بوادره يقول : زملوني, زملوني, لقد خشيت على نفسي ...
ولم تكن خديجة ممن يطير لبها فزعا, ولم يكن هذا الطارئ العجيب الغريب ليذهلها عن سداد الرأي, ومنطق الحكمة لقد عرفت بنور بصيرتها وسلامة نظرتها سنة الله في معاملة عباده فقالت لزوجها في ثقة و يقين: كلا والله لا يخزيك الله أبدا, انك لتصل الرحم, وتحمل الكل , وتكسب المعدوم, وتصدق الحديث, وتقري الضيف, وتعين على نوائب الدهر.
وفي رواية قالت له: ابشر واثبت يا ابن عم, فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
ولم تكتفي بالقول, بل صحبته إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل وقد كان امرءا تنصر في الجاهلية وعرف العبرانية وكتب بها من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب فقالت له خديجة: أي ابن عم, اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ما ترى؟ فاخبره رسول الله خبر ما أرى.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي انزله الله على موسى .
وهكذا كانت خديجة ملاك الرحمة والمرافا الأمين والملاذ المكين لمحمد عليه السلام
وكانت انسه لذا استوحش وكنزه إذا احتاج وأمله إذا استيأس وطمأنينته إذا اضطربت من حوله الحياة.
قال ابن إسحاق : كانت خديجة أول من امن بالله ورسوله وصدق بما جاء به, فخفف الله بذلك عن نبيه, فكان لا يسمع شيئا يكرهه من الرد عليه, والتكذيب له, فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها, تثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس.
شاطرته متاعب الدعوة, والآم الرسالة راضية مغتبطة, دخل الشعب فدخلت معه , وذاقت مرارة الحرمان وعضة الجوع, وهي ذات المال الوفير وربيبة الرفاهية والنعيم, فلا عجب أن يحمل إليها أمين الوحي السلام من فوق سبع سموات .
روى البخاري عن أبي هريرة قال( أتى جبريل إلى رسول الله ص فقال: يا رسول الله, هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه طعام, فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها .. ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب , لا صخب فيه ولا نصب).
قال السهيلي: إنما كان البيت بهذا الوصف , لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتعبه يوما من الدهر, ولم تصخب عليه مره ولا آذته أبدا.
وفاة ووفاء:
في السنة العاشرة من البعثة, وقبل الهجرة بثلاث سنين شاء القدر الذي يبتلى الناس قدر دينهم أن يختطف من الرسول زوجه الحبيبة خديجة التي كانت له كما قال ابن هشام وزير صدق على الإسلام.
وقبلها بقليل مات ساعده الأيمن عمه أبو طالب تلك كانت ملاذه في الداخل وهذا كان عضده وناصره في الخارج فكان هذا المصاب بعد ذاك جديرا أن يترك في نفس النبي أثرا عميقا جعله يسمي هذا العام عام الحزن.
ماتت خديجة ولكن ذكراها لم تمت في نفس رسول الله , لقد ظل وفيا لها طوال حياته يحن لذكراها و يهش لأهلها, ويكرم صديقاتها, حتى أن عائشة أحب أزواجه إليه بعدها لتغار منها في قبرها, فقالت : كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها , فذكرها يوما من الأيام فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا قد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب, ثم قال : لا والله ما ابدلني الله خيرا منها, آمنت بي إذ كفر الناس , و صدقتني إذ كذبني الناس, وواستني بمالها إذ حرمني الناس, ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.
قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا اذكرها بعدها بسيئة أبدا.
رحمها الله و ورضي عنها, وجزاها عن نبيه ودعوته خير ما يجزي الصديقات